قالوا عن الشهيد...نعم أنا طبيب بلا قفازات/البروفسور أحمد باب ولد عبد الجليل

خميس, 04/30/2020 - 13:56

ليس ﻷن القفازات مفقودة في المستشفى، فتلك قصة قديمة لم تعد تثير اﻹهتمام، وليس ﻷنها اختفت من الصيدليات أمام البوابة فأنواعها سيئة التصنيع والحفظ متوفرة في كل حين.. ليس هذا ولا ذاك ولكنني أردت أن أنزع قفازاتي وأرميها بعيدا، ﻷتكلم عن واقع مر دون تلميع ولا بهرجة.

.....................
لن أحكي عن وقفة الكرامة التي طال انتظارها ولا ثورة اﻷطباء لتبرئة ذمتهم من صفقات مشبوهة ودواء مزور 
وميزانيات منهوبة ومرضي في الحالات المستعجلة يشترون اﻹبرة والسلك والقفاز واللاصق لتقطيب ندبات غائرة في رؤوسهم نتيجة حادث سير مباغت، قد ينزفون حتى الموت قبل أن يستكملوا المطلوب، والطبيب والممرض ينظران ولا يملكان غير الدعاء بأن يعيش المريض؛ فلا أدوية عندهما وليس في غرفة مداومتهما من الخيوط إلا ما نسجته العنكبوت في أركان مبني وسخ متهالك.
لا لن أحكي عن ذلك ولكنني سأسرد قصصا قصيرة لطاقم طبي علي خط النار، قصص ﻷطباء وممرضين ضحوا وما زالوا في مواجهة عدو مميت لا يرحم وبأيدي عارية من كل قفاز:
-كان الطبيب الشاب (ابراهيم ولد زيد) في العشرينات من عمره تخرج منذ 4 سنوات وحول إلي داخل البلاد طبيبا رئيسا لمركز صحي حيث أمضي سنتان تقريبا في عمل متواصل لتخفيف أنات المتألمين وتضميد جراح المكلومين في صبر وأناة وضيق ذات اليد. زرته ذات صيف فكان يسعني بأخلاقه كما وسع معاوديه وأنى له أن يسع بغيرها، ثم أراد الله أن يحوّل إلي المستشفي الوطني في انواكشوط أيام أول جائحة للحمي النزفية، وكعادته كان مندفعا لعلاج المرضي الوافدين بالعشرات يقيم ليله ونهاره معهم ....ثم استشهد في تلك الجائحة، هو كما نحن اﻵن طبيب بلا قفازات احتضن مرضاه بقلبه وخلقه ورحل معهم شهيدا للوطن وضحية لإهمال والنهب المبرمج.
كان ذلك في سنة 2003 ، وكلما أعلن عن تكريم في ذكرى الاستقلال؛ أنصت لعلي أسمع اسمه فلا أتبينه بين أسماء قد لا يشرفه التواجد بينها فأدعوا له بالمغفرة وأندب حظنا العاثر.

-الممرض(S)كان من طاقم التخدير أيام كنا متدربين في اﻹختصاص ! يومها كان المستشفي الوطني ثاني اثنين لا ثالث لهما في العاصمة وكانت اﻹحالات تأتي من كل حدب وصوب فلا ننتهي من عملية إلا لنبدأ أخرى، وكان تقني التخدير (S) ملاذنا كلما غاب أحد زملائه أو تأخر عن دوامه وقد اكتشفنا نقطة ضعفه فلطالما رددناه من باب القسم وهو يغادر وقد حمل حقيبته لنقول له إن مريضة جديدة
تحتاج إلي عملية وعندما كان يقول لي إن زميله المداوم في الطريق وأنه قد تجاوز فترة دوامه بساعة كنت أختلي به وأقول له(إنها مريضة فقيرة
ولا تملك ثمن العملية ولا حتي الدواء ، ولكن حالتها مستعجلة) عندها كان يعود بسرعة ليغير ملابسه ويدخل غرفة العمليات ويباشر دون تأخير تخدير المريضة ودون أن يتكلف عناء التعليق على كلامي.
توفي التقني العالي(S) نتيجة التهاب بنكرياس حاد سنة 2005 في المستشفي الوطني وقد تكفل أصدقاؤه وزملاؤه بدفع كل التكاليف.
لم يتحصل علي رفع للخارج تماما مثل الطبيب(ابراهيم) ولم يترك وراءه منزلا ولا ميراثا تماما مثل الشهيد(ابراهيم)
ولم يشفع لهما ما أنقذا من أرواح و سكنا من ألم وأزالا من حزن ليذكرا في مراسم التكريم والعرفان بالجميل.
ماتا واكتنفهما النسيان وعاش غيرهم يصرف ميزانيات كبيرة من دم المرضي لينعم ويكرم.
....
من أجلهما ومن أجلنا نزعنا القفازات باﻷمس وغدا وفي كل حين ورميناها بعيدا في وجه قطاع ينخره الفساد وسوء التسيير
وقررنا أن نقوم فلا نقعد ونواجه فلا نرتد حتي تكتسب حقوق مشروعة، وحتي يدخل المريض مستشفياتنا ليبرء ويحيا وحتى نعمل لنداوي ونشفي، لا لكي نُحمل مسؤولية لسنا من باء بوزرها، ولكي نفهم فلا نعاب، ولكي نضحي فنذكر بالحسنى بعد الموت ولا يكتنفنا النسيان الكافر الجحود.

البروفسور أحمد باب ولد عبد الجليل

#الشهيد_ابراهيم_يستحق

القسم: 

وكالة المنارة الإخبارية

على مدار الساعة